جذور الخوف والشك والكراهية

لا توجد الثقة جاهزة في المجتمعات وإنما هي ثمرة تراكم تاريخي عملت عليه التجربة الطويلة والمعاناة. وتنميتها هي من الغايات الرئيسية للأديان والفلسفات والقصص والسير والأساطير المتداولة في جميع الثقافات الإنسانية. 

وعلى العموم، لم تخرج المجتمعات السورية والعربية من القرون الماضية بإرث كبير من الثقة العمومية. فقد جفف الاستبداد التاريخي، وظروف الفقر والبؤس التي سادت مجتمعاتنا لقرون، ينابيع الرحمة والإحسان، ووسم العلاقات بين الافراد بالكثير من القساوة والغلظة والانانية، كما رسخ نزعة الإنكفاء على الخصوصيات المحلية والطائفية والاثنية. 

ولم تساعد حكومات الانقلابات العسكرية التي تعاقبت على السلطة بعد الاستقلال (1946) على تجاوز هذه الآثار السلبية بل عززتها. وجاء حكم الأسد والدولة الأمنية التي أقامها ليؤسس لعصر الرعب والارهاب المنظم والرقابة الشاملة، ليشكل امتحانا أخلاقيا وسياسيا للجميع، ويضاعف من تدمير الثقة على صعيد العلاقات بين الأفراد وبينهم والسلطة الحاكمة والدولة ايضا. 

سحقت الدولة الأمنية أدنى هوامش الحرية والتضامن الاجتماعي، وعطلت مؤسسات الوساطة والتفاعل الاساسية من أحزاب، نقابات، جمعيات، ومنتديات وإعلام مستقل، فحولت السوري من "كائن سياسي" اي مواطن، إلى "فرد معزول" يخاف من الدولة ومن أقرانه. صار الشك قاعدة التعامل، والصمت لغة النجاة، والانطواء بديلاً للتواصل. 

في ظل النظام الأمني الشامل، أعيد بناء المجتمع على أسس الخوف والريبة وسوء الظن، وأصبحت الوشاية والولاء أدوات للبقاء، والكذب وسيلة للترقي، والانتهازية شرطاً للسلامة. أعيدت صياغة القيم الأخلاقية بصورة مضادة حتى يُعاقب الشريف ويُكافأ المتملّق. تحوّل الخوف إلى ثقافة عامة، واستُبدلت العلاقات الأفقية الحرة بين الأفراد بروابط عمودية قائمة على الخضوع والزبائنية والطائفية. نجح النظام في إفراغ الهوية الوطنية من مضمونها لصالح هويات جزئية، محوّلاً التنوع الديني والاثني إلى أداة للسيطرة، والارهاب الى سياسة فانتفت اي ثقة ذاتية او عامة.

وجاءت حرب الابادة التي شنها النظام لإخماد الثورة الشعبية (2011)، بعد أربعين عاما من حكم متوحش، لتقضي على المجتمع ذاته وتفتته بالعنف المادي والمعنوي معا. قوضت الدولة بمفهومها العميق وبمؤسساتها، واقتلعت السياسة من الجذور، وقسمت عموم الشعب بين قتلة مجرمين وضحايا مشردين، يائسين يبحثون عن مأوى. وانهار أي معنى للاجتماع والقانون والمدنية والوطنية والسياسة. خرجت جميع الأطراف مهشمة ومدمرة ماديا ومعنويا من محرقة حقيقية: لا القاتل سليم ولا الضحية. وحل محل الثقة والأمل باستعادة الكرامة والوحدة والحياة الوطنية إرث ثقيل من الصعب حمله من الأحقاد والضغائن والآلام والحسابات المعلقة، ودخل المجتمع بأكمله في عطالة كاملة واجترار الاحزان في انتظار المجهول، بينما تحولت الطبقة الحاكمة إلى عصابة مافيوية تعمل في تهريب المخدرات وتجارة الأعضاء البشرية. 

لم تدمر حرب الإبادة المادية والمعنوية التي شنها النظام ضد احتجاجات شعب جريح روح المجتمع والدولة فحسب، ولكنها قضت على معنى الإنسانية. وفاقم من هذا الدمار المادي والمعنوي تخلي المجتمع الدولي عن مسؤولياته خلال اربعة عشر عاما من القتل المنظم والقصف الأعمى، وزاد من اليأس والقنوط تخبط النخب السياسية والثقافية السورية وعجزها عن التفاهم والتعاون لمواجهة المحنة الدموية. 

لم تدمر هذه الحرب التي دارت تحت الأرض وفوقها، في ساحات القتال وداخل الدولة والإعلام والثقافة، وعلى جسد كل سوري، الهياكل والمؤسسات المجتمعية فحسب، بل أعادت صياغة الذاكرة الاجتماعية نفسها. فقدت الكلمات معناها: “الثورة”، “الوطن”، “الحرية”، وجعلت مفردات السياسة والأخلاق والثقة مفرغة من اي مضمون. أفقدت اللغة نفسها، وهي أداة التواصل الأولى، وظيفتها واتساقها وغيرت دلالات ألفاظها. صارت الكلمات ميدانا آخر لخوض الحرب وتكريس القطيعة. وحين تُصبح اللغة ساحة حرب، لا يبقى معنى للحقيقة ولا للإنسان، تتحول الكلمات ذاتها الى رصاص يفرض على الجميع الصمت والعزلة والخوف والاختفاء.

للأسف لم تعثر هذه الجثة المتعفنة للحرب الابادية على من يتبرع بدفنها وإهالة التراب عليها وتحرير السوريين من روائحها الكريهة. 

اول الراغبين في استغلالها هي الحكومات والأطراف الدولية التي تريد لسورية ان تبقى ضعيفة منقسمة على نفسها ومنشغلة بنزاعاتها الطائفية والإثنية وفي مقدمها اسرائيل وبعض الأطراف والميليشيات المحلية التي تعتقد ان لها مصلحة في انهيار الدولة السورية وتقاسم أملاكها. 

تشارك في هذا الموقف ايضا شخصيات فقدت مركزها مع انهيار النظام السابق وأخرى معارضة يئست من المشاركة ولا تريد للسلطة القائمة ان تنجح في تثبيت وضعها واقامة سلطة دينية متعصبة  تتناقض مع مصالحها واعتقاداتها. وهي تستغل مشاعر الخوف وانعدام الثقة الواسعة لتعبئة قطاعات من الرأي العام الخائفة لإجبار السلطة على الاعتراف بوجودها وفتح ابواب المشاركة لها.

لكن الطرف الاهم هو السلطة الجديدة نفسها. فليس هناك شك في ان أطراف عديدة منها ومن مؤيديها لا ترى في هذا الانقسام المجتمع وانعدام الثقة إلا فرصة افضل لانتزاع الولاء التلقائي لاكثرية دينية جاهزة، وعزل جماعات دينية أو اجتماعية وسياسية وتهميشها. هذا ما يساعدها على تغطية المصاعب الذاتية والموضوعية الكبيرة التي تواجهها ولا تملك الإجابات الواضحة عنها. وهو ما يوفر لها أيضا قاعدة اجتماعية واسعة وموثوقة من دون أثمان باهظة تتعلق باحترام الحقوق المدنية والسياسية واطلاق الحريات العامة وتأمين شروط العيش الكريم لشعب تتخبط  اغلبيته في بحر الفقر والفاقة وانعدام الأمل بالمستقبل. من هنا التركيز على النصر وتجاهل عذابات الضحايا.